رؤية اسلامية في تطبيق مبدأ سلطان الارادة القانوني
مقالة بقلم التدريسية: جمانة جاسم الاسدي
أن سلطان الارادة هو مصطلح قانوني يقصد به مجالات الحرية المتاحة للفرد في تعاملاته لاسيما في المجال القانوني، فالإرادة وحدها هي التي تملك انشاء كل أنواع التصرفات وتحديد الاثار، فضلا عن ان الإرادة لها السلطان الأكبر في تكوين جميع الروابط والتصرفات القانونية وغير القانونية، وهي واحدة من نتائج المذهب الفردي الذي يقدس ويحترم حرية الفرد بمعنى ان الارادة طالما كانت حرة في تحقيق مصلحة الفرد الخاصة إذن فهي القادرة على أن تنشئ التصرف القانوني وتحدد الاثار التي تترتب عليه، فهي مجردة عن أي شكلية كافية لأنشاء التصرف، ويكون التعبير الصادر عن الإرادة بأي صورة فقد يقع باللفظ او بالكتابة او حتى بالإشارة ويكون صريحاً كما يمكن ان يكون ضمنياً.
فموضوع مبدأ سلطان الإرادة هو حرية إرادة المتصرف في أصل التصرف القانوني ونتائجه وحدود تلك الحرية في نظر القانون، وعليه اصبح هذا المبدأ وما ينتج عنه من حرية التعاقد مبدأ ثابت في غالبية النظم القانونية وخاصة ذات النزعة الفردية.
وفي اطار القانون المدني فأن إرادة الفرد تشرع بذاتها لذاتها وتنشئ بذاتها لذاتها التزامها، فللإرادة الحق في انشاء ما تشاء من العقود غير متقيدة في ذلك بأنواع العقود التي نظمها المشرع، ويعتمد هذا المبدأ على جانبين الأول يتعلق بالحرية واما الجانب الثاني فهو يتعلق بالمساواة، فالحرية أساس النشاط الذي يظهر بمظهر الإرادة، وان المصلحة العامة تتحقق عندما يتم التوفيق بين ارادتين كل منهما تقرر مصلحة قائمة، على اعتبار ان المصلحة العامة ليست الا حصيلة مجموعة للمصالح الفردية، اما الجانب الأخر فهو المساواة، وهنا لا نقصد بالمساواة الفعلية التي لا يمكن تحقيقها بل نقصد المساواة القانونية التي تكفل في النهاية تحقيق العدالة، والعدالة هي أساس المصلحة العامة.
لقد اعطى الله سبحانه وتعالى للإنسان إرادة ولكن هذه الإرادة محددة بالقدرة والامكان، وعليه أن يستعمل تلك القدرة والامكان لكل اعمال الخير، وان علاقة الانسان بالله علاقة حرة لا يجبر الانسان على الايمان كما لا يجبر على الكفر.
اما المقصود بمبدأ سلطان الإرادة في الشريعة الإسلامية حيث وجدنا انه بدأ بالظهور مع بداية الإسلام واقعا، ومع نزول الوحي على الحبيب المصطفى محمد (عليه وعلى اله افضل الصلاة والسلام)، وقد وصل مدى هذا المبدأ الى ان جعله الله أساس الدين كله، فنرى مصداقه في قوله تعالى: “لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصال لها والله سميع عليم” (سورة البقرة الآية 256)، وقال تعالى أيضا: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (سورة الكهف الآية 29)، كما وقال عز وجل أيضا: “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (سورة يونس الآية 99)، والواضح من هذه النصوص القرآنية ان التفسير الظاهري للآيات ينصرف الى ان حرية الانسان وسلطان ارادته هي أساس صحة الايمان بالله، وبقية التصرفات من باب أولى لأنها أقل شأنا من الاعتقاد ذاته.
ولأن للقران والقانون دورا كبيرا في إرساء مبدأ سلطان الإرادة او حرية الإرادة والاختيار، فقد لاحظنا أن الشارع المقدس (عز وجل في عالي سماه) قد زود الانسان الى جانب الإرادة الحرة القدرة على اتخاذ القرار بالعقل، والتفكير الذي يمكنه من التشخيص السليم والتمييز الدقيق بين الأمور، فعندما يمتلك الفرد القدرة الكافية على التشخيص فان إرادة الانسان تكون قادرة على التخلص من السلبيات مهما كانت سطوتها، فقد خلق الله سبحانه وتعالى إرادة تمكنه من التصرفات التي يبغي بها مرضات الله، واتخاذ القرار نحو الصحيح وليس العكس، فلا يكون الفرد عنصرا جامدا للمحيط الاجتماعي، فيجب ان تكون ارادته هي الأصل وتدور في مساحة واسعة من الممكنات المباحات، فالإرادة في الأصل حرة.
الا ان هناك مجالين يبدو لنا انها اخطر مجالين ترك فيهما للإنسان مطلق الحرية بلا أي قيد عليها، فالعلاقة بين الانسان والخالق علاقة حرة فاطلق له العنان في مجال الاعتقاد أي (الكفر والايمان)، والخطورة تكمن في ان هذه العلاقة حرة لا يجبر الانسان على الايمان غيها، كما لا يجبر على الكفر ويتخذ قراره بحرية تامة، وهذا اسمى ما يمكن ان يكون، لان الايمان بالله النابع من إرادة حرة مختارة، هو ما يعتد بها، وحرية الاختيار في كل علاقة هي لبنة الاساس التي يبنى عليها بكل ثقة وبشكل سليم.
ومما يمكن ملاحظته كذلك أن التاريخ قد ترك لنا مصداق عظيم للإرادة وسلطانها على الانسان، فكان النبي (صلى الله عليه واله سلم) المثل الأعلى لقوة الإرادة والعزم الجبار، فقد وقف صامدا امام كل التحديات وقاوم كل أفكار الجاهلية وتصدى بعزم وتصميم لكل اعداء الاسلام، وناضل بإرادة جبارة في سبيل مبادئه وأهدافه، حيث اعلن موقفه بقوله: “والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على ان اترك هذا الامر ما تركته، حتى اهلك او يظهره الله”، فكان قوله واضح وصريح في التعبير عن ارادته والتصميم القوي في تحطيم اصنام الشرك وابادة قوى الضلالة الغاشمة.
واخيراً فالإرادة القوية تتمثل بالرحلة الطويلة التي تتطلب الصبر والايمان والاستمرار للاستفادة من القدرات الذاتية، والتي تتعزز بالتوجه نحو قراءة القران الكريم بتمعن والسيرة العطرة لمحمد واله الاطهار، وتفسير الاحكام المتولدة عما نطلع عليه، وتطبيقها في الواقع العملي في مجتمعنا الذي يتهاوى جزء منه اخلاقيا.
ويجب ان نأخذ بنظر الاعتبار الاحداث التاريخية التي تركت لنا اثارها لتكون مصداقا ومنهاجا للتطبيق، وعليه يجب ان نوجه سلطان ارادتنا نحو الخير والصلاح ونحو كل ما يقربنا الى الله سبحانه وتعالى، كما ان الاجتهاد بالتفكير والتأمل للعمل الصالح مرتبط بما يبذله الانسان من جهد ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق العلم والاختيار والوعي والإرادة القوية، لاسيما في يومنا الحاضر الذي نواجه فيه الكثير من التحديات التي يعيشها البلد بشيء من الانفلات والفوضى والابتعاد عن المفاهيم القرآنية والاقتراب نحو ملذات الحياة، فهذه بالحقيقة تعد لنا دروسا ومناهج وعبر.
ولا يخفى على العارفين ان الإرادة ما هي في حقيقتها الا شجاعة وقوة في مواجهة العقبات والعواقب، وتجاوز الأفكار غير المرغوب فيها وترك تنفيذها، لأن الارتباط الروحي مع الله الناتج من الايمان الحقيقي والتقرب الى الله مع ارادة قوية خالصة مخلصة هي ثمار الوصول الى رضا الله ونعيم جناته، لذلك يفترض علينا ان نعلو على سلبياتنا، ونوجه سلطان ارادتنا الى كل ما يحبه الله ويرتضيه، وعدم توجيهه نحو ما لا يطابق احكام الله.